حوار دكتور سلامه البلوي

الحوارات واللقاءات

Suliman Al-Saqqar

10/25/20222 min read

حوار مع أ.د سلامة محمد الهرفي البلوي

أستاذ كرسي الحضارة العربية الإسلامية بجامعة شيآن للدراسات الدولية بجمهورية الصين الشعبية والممثل الدائم ومدير العلاقات الدولية للاتحاد الدولي للكتاب العرب

الجزء الثاني

أجرى الحوار الإعلامية ريم الأسعد

س1: د. سلامة بصفتك متخصصا في الحضارة العربية الإسلامية ما الذي يميز في اعتقادك تلك الحضارة عن غيرها من الحضارات الإنسانية؟

بادىء ذي بدء أتقدم بخالص الشكر والتقدير للقائمين على مجلة الاتحاد الدولي للكتاب العرب على إتاحتهم الفرصة لي للتواصل مع قراء المجلة ،والشكر للإعلامية ريم الأسعد على كريم تلطفها بإجراء الحوار .

لقد تميزت الحضارة العربية الإسلامية برؤيتها الإنسانية ، ونظرتها الشمولية، وفكرتها الوسطية، وصبغتها الأخلاقية، وتمجيدها للعقل و للعلم والعمل .

حضارة صهرت كل الخبرات الإنسانية السابقة من: يونانية، ورومانية، وهندية، وفارسية، وصينية، وإفريقية، وغيرها في بوتقة ، عنوانها تكريم الإنسان بغض النظر عن جنسه أو لونه أو معتقده، أو قوته أو ضعفه، بوتقة جوهرها العدل والإنصاف ، وعنوانها الرحمة والإحسان، وحب الخير للناس، وعمادها الوسطية والتسامح وتعظيم شأن التعايش.

حضارة أعادت للفئات المهمَّشة والضعيفة اعتبارها وإنسانيَّتها، وأخذت بيدها لتواصل مشوارها في الحياة في جوٍّ مُفْعَم بالحب والرحمة، مما ساهم في تفجير طاقاتها الخلاقة، فأثرت المعرفة بعلومها وإبداعاتها المختلفة، ولعل الناظر لكتاب العالم المبدع الجاحظ: (البرصان والعرجان والعميان والحولان) يدرك عظمة هذه الحضارة في رعايتها لتلك الفئات التي كانت تعاني من الحرمان والاحتقار في الحضارات الآخرى .

إنَّها الحضارة الوحيدة التي وضعت الإنسان في وضعه الصحيح، دون إسراف في تمجيده وتقديسه، ودون تحقيره والتقليل من شأنه، ولعل هذا يعد من أبرز ما يميز الحضارة العربية الإسلامية عن غيرها من الحضارات التي عجزت عن توفير الطمأنية والاستقرار النفسي للإنسان.

حضارة حرَّرت العقلَ البشريَّ من الخُرافة والجهل والتقليد الأعمى، وفتحت أمامه نوافذ جديدة للإطلال منها على الكون والحياة، حضارة جعلت من الحوار منهجًا لها في كلِّ أطوارها مع جميع مَنْ خالفها، وهي في نفس الوقت تؤمن بطلب جميع أنواع المعرفة التي تؤدي إلى تقدُّم البشرية، ولو كانت في أقاصي الدنيا.

حضارة وهبت للإنسانية عطاء متنوعًا، وقادت الركب الحضاري في: الطب ، والصيدلة، والفلك، والجغرافيا، والرياضيات، والكيمياء، والفيزياء، والهندسة، والعمارة، والفن، والزخرفة، والصناعة، وغيرها من فنون المعرفة، طوال أكثر من ألف عام.

إنَّ أمّتَنا لديها تجربة حضارية ناجحة إنْ تمَّ استدعاءها بشكل سليم، سيعيد لهذه الحضارة تألُّقَها وللأمة دورها الريادي، يقول مدير جامعة برلين البروفسور غريسيب: «أيُّها المسلمون ما دام كتابكم المقدَّس عنوان نهضتِكم موجوداً بينَكم، وتعاليم نبيِّكم محفوظة عندكم، فارجعوا إلى الماضي لتؤسِّسوا المستقبل».

س2: د.سلامة إن الناظر لوسائل التواصل المختلفة يجد أنه يوجد لدينا في العالم العربي أزمة حوار بحيث نلاحظ افتقار بعض المتحاورين لأبسط معايير الحوار الهادف ، فهل لك أن تحدثنا عن نظر علماء الأمة لأدب الاختلاف إبان فترات الإزدهار الحضاري ؟

يحضرني في هذا المقام مقولة للعالم الجليل يونس الصدفي يلخص لنا الإجابة على هذا السؤال حيث قال : ما رأيتُ أعقلَ من الشافعيِّ، ناظرتُه يومًا في مسألةٍ، ثم افترقنا، ولقيني فأخذ بيدي، ثم قال: يا أبا موسى، ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة.

لقد ركز الأمام الشافعي في نصيحته على قضية مهمة وهي أن كسب القلوب أولى من كسب المواقف، وضرورة التركيز في الحوار على المشترك والذي يشكل المساحة الأكبر بين المتحاورين أكثر من التركيز على نقاط الخلاف التي تشكل المساحة الأصغر مع الحرص على عدم قطع الحبال مع من تحاور من خلال نزع رغبة الانتصار للذات. فكن يا أيها المحاور هينا لينا لتكسب قلب من تحاوره ولا تكن فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ فينفض الناس من حولك ، وكن متسامحا ساميا في هدفك من الحوار عفّا في لسانك تتخير ألفاظك بعناية بعيدا عن التشهير لتنال شرف من عناهم المصطفى (ص) في قوله: إن الله حرم على النار كل هين لين سهل قريب إلى الناس. فإذا آمنا بأن تنوع الأزهار في الحديقة يزيدها جمالا عندها يصبح الاختلاف مصدرًا من مصادِر الإثراء الفكري ووسيلة للوصُول إلى القرار الصائب، ويُصبح الواحد منَّا بحقٍّ مرآةً لأخيه،فليكن شعارنا دوما عندما نتحاور «رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب» كما كان الشافعي يردد دوما. حيث تمكن عن طريق هذا المنهج من كسب قلوب الناس وغدا مذهبه من أوسع المذاهب الأربعة انتشارا.

س3 : د. سلامة من خلال تجربتك الطويلة وتنقلك بين البلدان كيف تنظر للصداقة والصديق ؟

إن الصداقة مثال جميل من أمثلة محبّة الإنسان لأخيه الإنسان؛ لذا ليس مستغربا أن تحتل الصداقة مساحة كبيرة من الفكر الإنساني بكل اطيافه ومعتقداته واديانه، فكثرت الأقوال المنثورة والمنظومة فيها، فتحدث عنها الفلاسفة فأجادوا، وتناولها الأدباء فأبدعوا، وتناولها الشعراء فأمتعوا وأطربوا، كيف لا والصداقة لازمة من لوازم الاجتماع البشري، ومن الأمور الفطرية التي لا يُمكن الاستغناء عنها، فالمجتمع لا يستطيع الحياة والتآلف إلا بوجودها.

وقد ميز الفيلسوف اليوناني أرسطو بين ثلاثة أنواع من الصداقة فهناك صداقة المنفعة التي تنقطع بانقطاع الفائدة، وصداقة اللذة، والتي تنحل بعد إشباع اللذة وصداقة الفضيلة وهي أفضل صداقة والأكثر بقاء، ويعتقد أرسطو أن الصداقة أكمل ما تكون عندما تتوافر لها الأسس الثلاثة (المنفعة-اللذة-الفضيلة).

وقد شبه المصطفى (ص) الصديق الجيد بالمسك الذي تخرج منه الرائحة الزكية والصديق السيء بنافخ الكير الذي تخرج منه الرائحة الكريهة حين قال: مَثَل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير فحامل المسك إما أن ‏يحاذيك ‏وإما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد ريحا خبيثة.

إن الصداقة هي ملح الحياة، ولا طعم للحياة بدون أصدقاء، يشاركوك همومك، وافراحك، واحزانك، تفزع إليهم عند الشدائد والملمات فتجد عندهم النصيحة الصادقة، والكلمة الدافئة، والراحة النفسية ،تبثهم شجونك وتشاركهم في اسرارك فيكتموها، وتطلب مشورتهم فلا يبخلوا عليك فيها ، فإذا ظفرتم أيها الأعزاء بصديق صدوق فلا تفرطوا به فهو نعمة ومنحة لا تقدر بثمن كما قال: الفاروق عمر بن الخطاب (رض): ما أعطي العبد بعد الإسلام نعمة خيراً من أخ صالح فإذا وجد أحدكم وداً من أخيه فليتمسك به فالصاحب الوفي مصباح مضيء قد لا تدرك نوره إلا إذا أظلمت بك الدنيا كما قال الحسن البصري.

س4: من خلال دراستك للتاريخ العربي الإسلامي هل لكم أن تقدموا لنا بعض الأمثلة على التسامح و التعايش بين أبناء الأمة على اختلاف مذاهبهم ومعتقداتهم وأفكارهم وأجناسهم ؟

إن تجربة التسامح والتعايش السلمي في الحضارة العربية الإسلامية تجربة فريدة ، ففي ظل الحضارة العربية الإسلامية عاش اليهود والنصارى، والمجوس والوثنيون، وتثاقف العرب مع الهنود ،والفرس ، والترك ، والكرد، والبربر والأحباش ، والصينيون ،والأروبيون، فأبدعوا وأجادوا في مختلف مناحي الفنون النظرية والعملية .

لقد أكدت الحضارة العربية الإسلامية منذ بزوغ فجرها على تعزيز قيم التسامح والتعايش والوحدة ورفض كل أشكال التمييز على أساس اللون، او العرق، أو المذهب، أو الدين، أو الإقليم ، يقول :خلف بن المثنى من علماء القرن الثاني الهجري : لقد شهدنا عشرة في البصرة يجتمعون في مجلس لا يعرف مثلهم في الدنيا علماً ونباهة، وهم الخليل بن أحمد صاحب النحو (وهو سُني)، والحميري الشاعر (وهو شيعي)، وصالح بن عبدالقدوس (وهو زنديق ثنوي)، وسفيان بن مجاشع (وهو خارجي صفري)، وبشار بن برد (وهو شعوبي خليع ماجن)، وحماد عجرد (وهو زنديق شعوبي)، وابن رأس الجالوت الشاعر (وهو يهودي) وابن نظير المتكلم (وهو نصراني) وعمر بن المؤيد (وهو مجوسي) وابن سنان الحراني الشاعر (وهو صابئ) كانوا يجتمعون فيتناشدون الأشعار ويتناقلون الأخبار، ويتحدثون في جو من الود لا تكاد تعرف منهم أن بينهم هذا الاختلاف الشديد في دياناتهم ومذاهبهم.

لقد جعلت الحضارة العربية الإسلامية من التسامح شعارا لفعلها الحضاري، وهذا ما أكده المؤرخ الفرنسي «غوستاف لوبون»: حين قال «أنَّ العرب هم أول من علّم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين … فهم الذين علّموا الشعوب التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان … ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبة».وأكد هذه الحقيقة ملك بريطانيا تشارلز الثالث حين قال: «إنَّ الإسلام يُمْكن أن يعلمنا طريقة للتفاهم والعيش في العالم، فالإسلام يرفض الفصل بين الإنسان والطبيعة، والدين والعلم، والعقل والمادة».

لقد آن الأون أن يستوعب بعضنا بعضا ونسير نحو هدف واحد وهو النهوض بأوطاننا والخروج من دائرة التخلف والتراجع الحضاري الذي نحياه بسبب تخلف ثقافة الحوار عندنا فما أجمل أن نسير بملابس مختلفة نحو هدف واحد.

س5: الدكتور سلامة هناك جدل واسع في مجتمعاتنا حول مفهوم وحدود حرية التعبير هل ناقش العلماء القدماءهذا الموضوع الحيوي والحساس ؟

لقد شغل موضوع حرية التعبير مساحة كبيرة من اهتمامات الفقهاء والفلاسفة والمؤرخين المسلمين حيث اعتبروا حرية التعبير حقٌّا مقدسا لكلِّ إنسانٍ شريطة أن تكون الكلمة مقيَّدة بالفضيلة والأخلاق؛ لأنها إن لم تكن محروسة بهذا القيد تنقلب وبالًا على الأمَّة والأفراد في الدنيا والآخرة، وقد شبَّه ربُّ العزَّة الكلمة المخلصة بالشجرة الطيبة، والكلمة غير المخلصة بالشجرة الخبيثة، فقال جل من قائل: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا ﴿وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ﴾ .

وقد سأل الصحابي معاذ بن جبل(رض) المصطفى (ص): أَكُلُّ ما نتكلَّم به يا رسولَ الله يكتب علينا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((تكلتك أمُّك يا معاذُ، وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم-أو على مناخرهم-إلا حصائد ألسنتهم)).

وانطلاقًا من هذا التوجيه قرر الفقهاء عدم جوا زالخوض في أعراض الناس، وإذاعة أسرارهم، ومن تجاوز الحد عوقب بنص القران الكريم قال تعالى:﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴾.

كما أكدوا على عدم جواز الجهر بالسوء؛ ونشر الأخبار الكاذبة عن الجرائم الشاذة في المجتمع عبر وسائل التواصل الاجتماعي لنشر الرعب والخوف بين أفراد المجتمع، فقد جاء في الحديث النبوي الشريف: ((أيّما رجل أشاع على رجل كلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا، كان حقًّا على الله أن يذيبَه يومَ القيامة في النَّار حتى يأتي بنفاذ ما قال)) ، فالمؤمن كما جاء في الحديث ليس بالطعان ولا اللعان والفاحش والبذيء.

وقد لخص لنا العالم الموسوعي الإمام شمس الدين السخاويُّ (ت 902هـ/ 1497م) ضوابط حرية التعبير بقوله : «الإسلام أعطى الإنسان الحرية، وقيَّدها بالفضيلة؛ حتى لا ينحرف، وبالعدل؛ حتى لا يجور، وبالحق؛ حتى لا ينزلق مع الهوى، وبالخير والإيثار؛ حتى لا تستبدَّ به الأنانية، وبالبعد به عن الضرر؛ حتى لا تستشري فيه غرائز الشر» وما أجمل ما قاله الإمام الشافعي رحمه الله:

يا هَاتِكًا حُرَمَ الرِّجال وقاطعًا سُبُلَ المودةِ عِشْتَ غيرَ مُكَرَّمِ

لو كنتَ حُرًّا من سُلالةِ ماجدٍ ما كنتَ هتـاكًا لحـُرْمَةِ مسلـمِ

وهكذا جعل الإسلام الانسان أمام رقابة ذاتيَّة، وجعله يستشعر المسؤولية في كل ما يقول، وما يفعل؛ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ ، وجاء في الحديث الشريف: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت» .

س6: د. سلامة هل هناك علاقة بين إدارة الوقت الفاعلة والتقدم والإزدهار في حياة الأمم؟

الوقت هو الحياة ، هو النجاح ، هو المال ،هو التقدم والإزدهار فمن ينجح في استثمار الوقت ينجح في كل ميادين الحياة لذا كان يقول الحسن البصري (رحمه الله): يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك.

تشير الدراسات أن اكثر دول العالم استثمارا للوقت هي أكثرها انتاجية وتقدما وازدهارا بمتوسط 7ساعات عمل يوميا، وفي المقابل تراوحت إنتاجية الموظف الحكومي العربي ما بين (18) إلى (25) دقيقة يومياً مما يجعل العامل العربي من أقل العاملين في العالم إنتاجية مقارنة بالدول المتقدمة .

إن الإنسان العربي لم يخلق كسولا، بل البيئة المحيطة به هي التي قتلت فيه الحماسة والنشاط، لأنه لا يرى حافزا يدفعه للإنتاجية، فهو يلاحظ أن المتراخين، والمتزلفين، والمتملقين، وأصحاب الحظوة هم من يصعدون السلم الوظيفي بسرعة البرق،ويرى أن الواسطة والمحسوبية تدفع بأشخاص إلى مواقع قيادية لا تتناسب مؤهلاتهم مع تلك الوظائف، مما يجعل المتميز يصاب بالإحباط وعدم الانتماء لوظيفته وعدم الحرص على الإنجاز.

ان هذه النتيجة الصادمة لإنتاجية العامل العربي لا تخطئها العين عند مراجعة العديد من الدوائر في بعض البلدان العربية حيث يضيع الموظف العربي وقت الدوام في الوصول المتأخر، والخروج المبكر من العمل، وقضاء الوقت في المحادثات الهاتفية، وتصفح شبكة الانترنت والمواقع الاجتماعية، والتدخين المتكرر، والخروج لتناول الطعام أو القهوة.

إن سر ارتفاع إنتاجية العامل الغربي على سبيل المثال هي أخلاق العمل البروتستانتية التي تشربوا بها والتي تنص على ضرورة العمل الجاد كعنصر من عناصر النجاح الدنيوي وكعلامة مرئية أو نتيجة للخلاص الشخصي، وبعبارة أخرى جعلت العمل عبادة فكانت النتيجة التقدم والازدهار. وهى عين العلة التي جعلتنا بالأمس سادة العالم .

إنَّ إدارةَ الوقت واستثمارَه من أُسُسِ الإثمار والتَّقَدُّمِ والازدهار الحضاري؛ فمن يُفَرِّطْ في الوقت يُفَرِّطْ في تقدُّمه وازدهاره كما يقول رب العالمين في كتابه الكريم ﴿وَالْعَصْرِ، إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ فلا نهضة لنا ولا تقدم وازدهار دون ان نجعل العمل عبادة واستثمار الوقت امانة وان نندم على كل دقيقة اضعناها دون إنتاجية فرحم الله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود (رض) حين قال ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي ، ولنتذكر بأن لغتنا العربية هي من أكثر لغات العالم فيها مفردات تتعلق بالوقت وان القرآن الكريم أكثر الكتب السماوية وردت فيه مفردات تتعلق بالزمن اذا اقسم رب العزة بالليل والضحى والعصر، وذكر اليوم ، والشهر والسنة، والعشية والدهر، والنهار، والفجر وغيرها الا يحتم علينا ان نراجع حساباتنا وندرك بأن اهدار الوقت هو تفريط وخيانة وان استثماره عبادة وريادة.

س7: د. سلامة لو كنت مسؤولا عن المناهج ما هو الموضوع الذي تحرص ان يدرس في كل المراحل الدراسية ؟

أعتقد أن موضوع الأخلاق والتربية الجمالية من الموضوعات التي يجب التركيز عليها ،فلا يمكن أن تنال أمة عزة أو شرفاً أو مكانة إلا إذا كان حظها ونصيبها من الأخلاق عظيماً، وهذا ما عبر عنه أمير الشعراء أحمد شوقى في العديد من ابياته الشعرية التي منها :

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وإذا أصيب القوم فى أخلاقهم.. فأقم عليهم مأتما وعويلا

كما علينا غرس قيم التربية الجمالية في أبنائنا للتخلص من المظاهر المخجلة التي نشاهدها من تصرفات بعض الأفراد ممن يستبيحون الشوارع العامة ، بإلقاء اعقاب سجائرهم ،أو زجاجات شربهم من نوافذ سيارتهم ، وممن يتلفظون بألفاظ نابية عند كل موقف من المواقف ، فما كان لهؤلاء أن يفعلوا فعلتهم هذه لو كانت أسرهم ومدارسهم وجامعاتهم ربتهم وغرست في وجدانهم قيم الجمال ، فالإنسان الذي ربي على حب الجمال لا يمكن أن يبطش أو يعتدي أو يلوث بيئته أو تخرج منه كلمة نابية أو يصدر منه تصرف غير لائق .

إن انتشار قيمة الجمال في مجتمع ما يعكس الحالة النفسية الجيدة التي يعيشها أفراد هذا المجتمع، ومدى إقبالهم على الحياة، ومؤشر لمدى تعلق أفراد هذا المجتمع بالمستقبل، فكلما شعر الإنسان بمزيد من الأمل والرغبة في الحياة، زاد اهتمامه بنفسه وحرصه على اختيار ملابسه، وجمال بيته، ومكتبه، وسيارته. وصدق الشاعر إيليا أبو ماضي حين قال

وَالَّذي نَفسُهُ بِغَيرِ جَمالٍ لا يَرى في الوُجودِ شَيئاً جَميلا

لَيسَ أَشقى مِمَّن يَرى العَيشَ مُرّاً وَيَظُنُّ اللَذاتِ فيهِ فُضولا

فَتَمَتَّع بِالصُبحِ ما دُمتَ فيهِ لا تَخَف أَن يَزولَ حَتّى يَزول

أنَّ الاستمتاع بالجمال والسَّعْيَ للتَّجميلِ المقبول سمة من سمات الإنسان السوي، قال تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ ﴾ والمسلم مأمور باتخاذ الزينة عند ذهابه للمسجد: ﴿ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ﴾ وزيادةً في التأكيد على أهمية تربية الحِسِّ الجماليِّ لصُنَّاعِ الحضارة الإسلاميَّة نجد أنَّ إحدى سور القرآن الكريم اسمها سورة (الزخرف) ؛لذلك ليس صحيحاً ما يعتقد البعض من أن الأناقة والتجمل من مظاهر التفاخر والتباهي التي حذر منها الإسلام ، ومن هنا ترفض شريعتنا وتدين سلوك هؤلاء الذين يهملون قيم النظافة والأناقة والجمال في ملابسهم وحياتهم الشخصية.

س8: د. سلامة لقد كان لكم دور هام في تقديم العديد من الأبحاث التي تبرز قيم الحضارة العربية الإسلامية السامية ، هل لكم أن تحدثوناعن بعض النماذج لرعاية تلك الحضارة لذوي الاحتياجات الخاصة ؟

لقد أدركت الحضارة العربية الإسلامية منذ بزوغ فجرها أن الأمة التي تسعى لقيادة البشرية لا بد لها من الاستفادة من كل طاقات ابناءها دون اقصاء أو تهميش لأي شريحة من الشرائح على أساس الجنس أو اللون أو المعتقد أو الدين، أو الصحة والمرض. فقد نصت الشريعة الإسلامية السمحاء قبل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بألف واربعمائة سنة على إلزام الأمة حكاما ومحكومين برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة على قدم المساواة مع الأصحاء لأن الكرامة الإنسانية مكفولة للجميع والتفريط فيها مخالفة لتعاليم هذه الشريعة الغراء.

ومن جميل ما نقرأعن رعاية الخلفاء لهذه الشريحة ما قام به الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك حيث خصص لكل أعمى قائدا يسهر على راحته، ولكل مقعد خادما، فضلا عن راتب شهري يغطي نفقاته ، وتحدثنا كتب التاريخ والتراجم أعجب من ذلك عندما تذكر أن عطاء بن رباح كان رأس الفتوى في العصر الأموي في مكة المكرمة ، رغم أنه كان أسود البشرة، أعرجا، أشلَ اليد، أفطس الأنف، أعورا من الموالي، هذا الذي تجمعت فيه كل هذه العاهات الجسدية فضلا عن رقة النسب ، رعته الدولة الأموية حتى غدا رأس الفتوى في مكة المكرمة أقدس بقاع الأرض عند المسلمين.

ولعل تسابق أهل الخير حكاما ومحكومين على وقف الأوقاف لصالح هذه الفئات الاجتماعية خير شاهد علي نضج الحس الاجتماعي للأمة الإسلامية، وسمو حضارتها، إذ يندر أن نرى بقعة معمورة كانت تتفيئي بظلال الحضارة العربية الإسلامية لا يوجد فيها وقف لأصحاب العاهات.

لقد ساعدت الخدمة الاجتماعية الراقية التي وفرتها الدول الإسلامية المتعاقبة لهذه الفئات إلى تفجير طاقاتها الكامنة، والتي أثمرت علما وأدبا وإبداعا في مختلف الحقول، حتى أن بعضهم أخذ يفتخر بعاهته التي لم تعقه عن أخذ مكانته بين أعلام الأمة، فها هو الشاعر الأعمى بشار بن برد يقول:

عَميتُ جَنيناً وَالذَكاءُ مِنَ العَمى فَجِئتُ عَجيبَ الظَنِّ لِلعِلمِ مَعقِل

وقد مزق الوشاحون موشحاتهم عندما افتتح الشاعر الأندلسي الأعمى التطيلي، موشحه بقوله:

ضاحكٌ عن جُمانْ سافرٌ عن بَدرِ

ضَاقَ عنهُ الزمانْ وَحَواءُ صَدْري

وذلك اعترافا بتفوقه عليهم، حيث صار توشيحه مثلا سائرا في الناس، ولا ننسى الشاعر الفيلسوف رهين المحبسين، أبو العلاء المعري ووصفه للنجوم وصفا عجز عنه الشعراء المبصرون، فضلا عن أشعاره ونظرياته الفلسفية، مما جعله محل ثناء وتقدير علماء الشرق والغرب على حد سواء .

ولعل المتأمل لكتب التراث الإسلامي يلحظ ما حظيت به الفئات الاجتماعية الخاصة من عناية وتكريم، إذ أفردت لها مؤلفات وأبحاث عديدة ترصد نتاجهم العلمي، وتتحدث عن مواهبهم وسيكولوجية تفكيرهم، وملامح شخصياتهم، والتي كانت في الغالب محل تقدير وثناء الأمة حكاما ومحكومين، حتى أن الخليفة كان لا يجد حرجا في بعض المناسبات من أن يصب الماء على يد أحد العلماء المكفوفين تقديرا لعلمه.

وهكذا كلما عمت العدالة والمساواة وشملت الرعاية لكل شرائح المجتمع كلما كان التقدم والازدهار وكلما كان التهميش والاقصاء لأي شريحة من شرائح المجتمع كلما كان التقهقر والانكسار.

س9: ماذا تعني المرأة للدكتور سلامة ؟ وهل كان لها دور في نهضة الحضارة العربية الإسلامية أم كانت مهمشة كما يدعي الآخرون ومن سار في ركبهم من أبناء الأمة ؟

المرأة تعني لي العطاء والايثار ، والحب والوفاء ، تعني لي الأم الحانية والأخت المشفقة ، والخالة الودودة ، والعمة الرحيمة ، والجدة الجليلة والزوجة الحبيبة هي زهرة الحياة وعطرها الفواح ، هي رمز النماء ، ومربية القادة ، وأخت الرجال في البناء الحضاري، وأي تهميش لدورها في الحياة يعني التراجع والتخلف الحضاري وصدق حافظ إبراهيم حين قال:

الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعباً طيّب الأعراق

الأم روض إن تعهّد بالحيا .. بالري أوْرَقَ أيّما إيراق

الأم أستاذ الأساتذة الأُلَى .. شغلت مآثرهم مدى الآفاق

لقد أسهمت زوجتي ورفيقة دربي إسهاما كبيرا في تقديم الدعم المعنوي لي طوال مسيرتي العلمية والعملية فكانت نعم الزوجة المثالية والمربية المتفانية ، حيث رضعت أبناءها عشق الكتاب وطلب العلم، وقدمت لهم أنموذجا حيا في حب المعرفة وعدم التوقف في طلب العلم عندما حصلت على درجة الدكتوراة بعد أن أنجبت خمسة من الأبناء كلهم اليوم يحاضرون في أعرق الجامعات في الطب والهندسة والحاسوب والإدارة فتحية لها ولكل امرأة ساهمت في نهضة أسرتها ومجتمعها.

أما عن دور المرأة المسلمة في البناء الحضاري فخير شاهد على فاعليتها ما وثقته كتب الطبقات ،والتراجم والأنساب ،والتاريخ ، والرحلة والتي أحصت العدد العديد من النساء اللواتي نبغن في مختلف فروع المعرفة فكان منهن : الحافظات والمقرئات والمحدثات، والفقيهات ، والمفسرات ، والطبيبات ، والأديبات ، والشاعرات ، والقائدات ممن ساهمن في نهضة الأمة ، فعلى سبيل المثال خصص ابن سعد في طبقاته الكبرى قسما خاصا للنساء ، وكذلك حذاحذوه المؤرخ خليفة بن خياط في طبقاته ، وذيل الخطيب البغدادي تاريخه المسمى : تاريخ بغداد بتراجم النساء، وانهى ابن عبد البر كتابه : الاستيعاب، بتراجم النساء الصحابيات ، وتابعه في ذلك ابن الاثير في كتابه : أسد الغابه، وابن حجر العسقلاني في كتبه : الإصابة ، وتهذيب التهذيب ، ولسان الميزان ، والحافظ المزي في التهذيب ، والذهبي في ميزان الاعتدل. وترجم تقي الدين محمد بن احمد المكي في نهاية العقد الثمين لـ (250 امرأة) من شهيرات المكيات ، وترجم الذهبي في سيرأعلام النبلاء للنساء والرجال ،وسار على هذا النهج ابن كثير في البدآية والنهآية.

وتخصص ابن عساكر بنساء دمشق ومن ورد عليها ، فترجم لـ (196) امرأة . اما ابن قتيبة فأفرد جزءاً من كتابه عيون الأخبار للنساء سماه : كتاب النساء في أخلاقهن وقلقهن ، وسار على هديه ابن عبد ربه في العقد الفريد حين جعل قسما خاصا منه لأخبار النساء سماه كتاب المرجانة الثانية ....... ويندر أن يخلو مصدر من مصادر تراثنا من الحديث عن المرأة أو الإشارة إلى جانب من جوانب نشاطاتها، وكل ذلك يمثل اعترافا بدورها وتوثيقا ورصدا لإسهاماتها في خدمة الأمة بعدما حررها الإسلام من الذل والعبودية ، فتفجرت طاقاتها ، واخذت تمارس دورها وهي رافعة الرأس جنبا إلى جنب مع الرجل .ولعل من المناسب أن نذكر ببعض الأعمال الكبرى التي قامت بها المرأة المسلمة والتي لا تزال تذكرها الأجيال جيلا بعد جيل والتي منها : عين زبيدة التي تعد مِنْ أعظم الأوقاف التي شهدها العصرُ العباسيُّ، والذي قامت به زوجةُ الخليفة هارون الرَّشيد زبيدةُ والذي أسهم في حلِّ مشكلة المياه في مكَّة المكرَّمة، وجامع القرويين في فاس والذي يعد اقدم جامعة في الغرب الإسلامي والذي أوقفته فاطمة الفهرية ، ورباط البغدادية الذي أنشأته السيدة الجليلة تذكار باي خاتون ابنة الملك الظاهر بيبرس بالقاهرة الذي يعد من أشهر الأوقاف المخصصة لرعاية النساء المطلقات حتى يتزوجن، أو من هجرهن أزواجهن حتى يرجعن إلى أزواجهن ؛ صيانة لهن من الانحراف. كما تعد زوجة السلطان سليمان القانوني خاصكي سلطان صاحبة أعظم وقفيَّة خيرية في تاريخ القدس، وهي وقفية خاصكي سلطان التي كانت مؤسسة اجتماعية متكاملة تقدم الطعام والمأوى والتعليم ناهيك عن عشرات المساجد والمدارس وأعمال البر التي قامت بها المرأة والتي لا يتسع المجال لبسطها .

أ.د سلامة الهرفي البلوي كلمة أخيرة تريد أن توجهها عبر منبر مقامات ومنارات لأسرة الاتحاد الدولي للكتاب العرب ورئيسه وأمينه العام والقائمين عليه .

في نهاية هذا اللقاء لا يسعني إلا أن أكررالشكر والتقدير لأسرة الاتحاد الدولي للكتاب العرب رئيسا وأمينا عاما ، ومدراء فروع ، وأعضاء ، كما لا يفوتني أن شكر معدة أسئلة هذا اللقاء الإعلامية ريم الأسعد التي سعدت في التواصل معها.

Related Stories